أنتم هنا : الرئيسيةعقوبة الإعدام وفلسفة العقاب

النشرة الإخبارية

المستجدات

26-12-2018

حصيلة متابعة تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة: المغرب ينجح في تعويض 27254 (...)

اقرأ المزيد

09-12-2018

‎انتخاب أمينة بوعياش لرئاسة مجموعة العمل المعنية بالهجرة التابعة للشبكة (...)

اقرأ المزيد

08-12-2018

اختتام فعاليات ندوة دولية لوضع أجندة بحث مشتركة في مجال الهجرة (...)

اقرأ المزيد
الاطلاع على كل المستجدات
  • تصغير
  • تكبير

عقوبة الإعدام وفلسفة العقاب

قطعت الإنسانية مسارا حضاريا طويلا انطلق منذ عصر العقاب إلى عصر إعادة تأهيل الجانحين، سواء أكانوا حقيقيين أو مفترضين. ويندرج إلغاء عقوبة الإعدام في إطار اتجاه تاريخي نحو تحول جذري في فلسفة العقاب وتطبيقه القانوني.

ولقد عرفت الإنسانية أشكالا من العقاب تفاوتت درجة وحشيتها، فإما أنها كانت "مشروعة" بمعنى أنها ارتبطت بأعمال يرى المجتمع أنها تستحق العقاب أو أنه تم إضفاء طابع "المشروعية" عليها بشكل صوري من خلال أحكام مسبقة قبلية أو إثنية أو قومية أو جنسية أو عرقية أو دينية أو سياسية أو ما شابه ذلك.

وفي فلسفته التي أضحت بدائية بالنسبة للبعض ومازالت راسخة بالنسبة للبعض الآخر في عدد من الأوساط الاجتماعية والسياسية، وجب أن يكون العقاب، مهما كان سببه معقولا أو مزعوما، مباشرا أو فوريا أو مؤلما أو مخلا بالشرف أو مسببا لإعاقة أو وفاة.

إن احتكار العنف المشروع من قبل الدولة التي يفترض فيها أن تمثل الجماعة يسحب تدريجيا سلطة العقاب المباشر من ضحية عمل يستحق العقاب أو من الجمهور الذي يتمرد على هذا العمل، ولو تعلق الأمر بالإنصاف على أساس مشروع افتراضا.

فضلا عن ذلك، يضفي التقدم المحرز في مجال سيادة القانون واستقلال القضاء على العقاب طابع الرسمية والمراقبة ويضع له شروطا، وذلك من أجل ضبط المشاعر الفردية والجماعية أمام الجرائم مهما بلغت درجة شناعتها. ولم تعد العقوبة فورية، وإنما أضحت هناك مسافة زمنية تفصلها عن الجريمة المقترفة، وهذا ما يسمح لنا بالتريث في الاستجابة إلى الحاجة الفورية إلى التعويض أو الرغبة في الانتقام الفردي أو الجماعي، ونربح بالمقابل ضماتات الإنصاف والتريث المعقول وحق الدفاع بالنسبة للمتهمين الذين يبقوا أبرياء حتى يتبث دليل إدانتهم.

وبالنسبة إلى الرغبة في إلحاق الأذى بالأشخاص المتهمين أو تسبيب الإعاقة لهم أو المس بشرفهم، فإن الاتجاه الغالب هو التخلي عن هذه العقوبات. أما ضرب الأطفال بالعصا تأديبا لهم على قيامهم بحماقات خطيرة، فالاتجاه السائد هو منعه. وبالنسبة لتسويط أجساد النساء وحلق شعرهن أو دفنهن أحياء بسبب الزنا أو المس بالشرف المقدس للأب أو الزوج فلم يعد أمرا ضروريا.

وبصفة عامة، فإن العقوبات الشرعية أصبحت تتكون أساسا من الغرامات وسلب الحريات. وبمعنى آخر، فإن فلسفة العقاب أصبحت تتوخى تكريس المبدأ الأساسي لحرمة السلامة الجسدية للشخص ولو كان متهما أو مدانا.

فكل عقاب جسدي في طريقه إلى الإلغاء مادام منبثقا عن وحشية بيداغوجية أو أبوية أو زوجية أو قضائية. إن التوجه الكوني نحو منع التعذيب وإنزال عقوبات قي حق مرتكبيه يسير أيضا على هذا الدرب. لم نعد نضفي طابع الشرعية على الانتهاكات التي تمس الأفراد تحت ذريعة نزع معلومات منهم لمحاربة الجريمة، ولو اكتسى ذلك أهمية أكبرى في إنقاذ حياة الآلاف من الأشخاص، كما هو الشأن بالنسبة لمحاربة الإرهاب مثلا.

صحيح أن السجن باعتباره وسيلة لسلب الحريات كان دوما مقترنا بعقوبات جسدية تم الاعتراف بها وتحمل مسؤوليتها: الحرمان الجنسي وسوء التغذية والأوساخ والاكتظاظ والتعرض للعنف أو الاغتصاب من قبل المسجونين أو رفاق السجن. والأمر لا يتعلق أولا وقبل شيء إلا بـ"مدانين" أو "سجانين"، وبالتالي فإن هذه "الأضرار الجانبية" لا تبدو فظيعة ولا تثير مشاعر إلا القليل من الناس.

غير أن هذه الرؤية المبتذلة للعقوبة السالبة للحرية تتراجع من خلال أنسنة المؤسسات السجنية وتحولها إلى فضاء لإعادة إدماج السجناء في المجتمع وإعادة تأهيلهم وإعادة الاعتبار لهم، وبشكل متنام عوضت العقوبات البديلة العقوبات السالبة للحرية، ولم يبق من ذلك إلا مصطلح "عقوبة" الذي يحيل على النية في إلحاق المعاناة بشخص ما ويمثل موروثا لفلسفة العقاب القديمة. لذا يجب إيجاد مصطلح بديل لها يتطابق مع النية في إعادة الاعتبار والادماج الاجتماعي الذي أصبح يميز الأوضاع والأنشطة الإلزامية أو الاختيارية التي تخصصها المجتمعات المتحضرة لفائدة الجانحين من أفرادها.

بيد أن عقوبة الإعدام تبقى أقصى ما يمكن أن يمس بالسلامة الجسدية للأشخاص؛ فهي إنكار لأهم حق من حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة. فعلى عكس القتل الذي يمكن أن يقوم به فرد أو جماعة لدوافع دنيئة أو دوافع تحركها اضطرابات نفسية، فإن عقوبة الإعدام تتمثل في التقرير بكل برودة دم وبشكل جماعي ورصين إنهاء حياة كائن بشري. فالمجتمع الذي يلجأ إلى تطبيق هذه العقوبة يظهر عنوة اعتقاده الذي يفيد بأن القتل ربما هو "الحل" لمشكل يواجه أفراد مجتمع ما في الحياة، وترسخ الفكرة التي تقول بأن القتل مبرر بمجرد توافر "أسباب معقولة". ولم يتبقى للمجرمين المفترضين إلا إيجاد الأسباب التي يرونها "معقولة" لارتكاب الجرائم ولو كانت أكثر شناعة.

ولهذه الأسباب، فإن إلغاء عقوبة الإعدام لا يسمح فقط بتجنب إمكانية وقوع أخطاء قضائية يمكن أن تؤدي إلى عواقب لا يمكن جبر أضرارها ألا وهي الإعدام، كما لا تسمح فقط بإنهاء معاناة أروقة الموت وإنهاء مخاطر التمييز في مواجهة الموت بسبب الفقر أو الأصل العرقي أو ما شابه ذلك، وهو ما يمكن أن يحرف أو يشوه الأحكام والقرارات القاضية بمنح العفو. ومن مزايا إلغاء عقوبة الإعدام أن المجتمع سيضع المجرمين الحقيقيين أو المفترضين أمام نموذج للتهذيب ولاحترام الحياة البشرية لغاية تربوبة وردعية وتأهيلية. إن محاربة الجريمة وإن كانت شنيعة، عن طريق اللجوء إلى عقوبة الإعدام يرتكز على ما هو أكثر بشاعة وأكثر ضعفا في المجتمع الإنساني: العنف الدموي وأثره المتمثل في الخوف المطلق. بينما يرتكز الحفاظ على الحياة والسلامة الجسدية لكل إنسان ولو كان مجرما على ما هو أكثر نبلا في هذا المجتمع ألا وهو احترام الغير والشعور بالأمل. إن المجرم الذي تنفذ في حقه عقوبة الإعدام تنتهي حياته وسرعان ما يطاله النسيان ولن يواجه أي مشكل ولو ذاك المتعلق بالتأمل في عمله الإجرامي. أما المجرم الذي يبقى على قيد الحياة فيمكن أن يوجه دائما لكل مجرم محتمل رسالة ندم وتجدد أخلاقي ورسالة مصالحة مع النظام الاجتماعي والقانوني.

إن إلغاء عقوبة الإعدام يتماشى مع الاتجاه التاريخي الكوني نحو احترام حرمة السلامة الجسدية للكائن البشري في جميع الظروف. وباستثناء السقوط الجسيم والعام من جديد في وحشية العقوبة القديمة، فإن مختلف المجتمعات كل حسب إيقاعها لا يمكن إلا أن توافق على هذا الإلغاء. إنها مسألة وقت بالتأكيد، وتحمل المسؤولية الفكرية والتربية الاجتماعية للنخب والجماهير الحاملة للتقدم الحضاري.

السيد محمد البردوزي، عضو بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان

أعلى الصفحة